كيف انحسر مفهوم الإسلام في نفوسنا إلى هذا الحد؟؟
كيف انحسر من مفهوم شامل للحياة البشرية في جميع اتجاهاتها ، بل مفهوم شامل – في الحقيقة – للكون و الحياة و الإنسان ، لكي يصبح مجرد عبادات تؤدى على نحو من الأنحاء ، بل لا تؤدى أحيانًا إلا ((بالنية)) .. بل لا تؤدى أحيانًا على الإطلاق ، لا بالنية و لا بغير النية .. ثم يظل يدور في أخلادنا – مع ذلك – أننا مسلمون صادقوا الإسلام؟
كيف انحسر من دستور شامل يحكم الحياة البشرية كلها و ينظمها : يحكم اقتصادياتها و اجتماعياتها ، و مادياتها و روحانياتها ، و سياستها و أفكارها و مشاعرها ، و سلوكها العملي في واقع الحياة ، لكي يصبح مجرد مشاعر هائمة لا رصيد لها من الواقع .. مشاعر تدور في نفس صاحبها – إن دارت – و هو يعيش في مجتمع غير مسلم و لا يستنكر الحياة فيه و لا يحاول تغييره. و تدور في نفسه – إن دارت – و هو ذاته لا يسلك سلوك المسلمين في حياته الخاصة و لا العامة. فتقاليده غير إسلامية ، و أفكاره غير إسلامية ، و تصوراته غير إسلامية ، و سلوكه اليومي لا يمت بصلة إلى الإسلام ، سواء في علاقة الفرد بالفرد أو الفرد بالجماعة أو الفرد بالدولة ، أو علاقة الرئيس بالمرءوس ...
كيف انحسر من حياة كاملة قائمة على مبادئ الإسلام و أفكاره و مثله و سلوكه الواقعي ، تشمل الدنيا و الآخرة و الأرض و السماء و الحاكم و المحكوم و الرجل و المرأة و الأسرة و المجتمع ، لكي يصبح جزئيات مبعثرة لا رابط بينها و لا دلالة فيها ، كالرقعة الشائهة في نسيج غير متناسق الأجزاء ؟
كيف نبتت تلك الأفكار العجيبة التي تقسم الإسلام من مشاعر من ناحية و سلوكًا عمليًا من ناحية أخرى ، ثم نفصل بين هذه و تلك ، و نتصور أن المشاعر وحدها يمكن أن تكون إسلامًا بمعزل عن السلوك ؟
كيف دار في أخلاد المسلمين أنهم يستطيعون أن يستوردوا اقتصادياتهم من أي نظام على وجه الأرض غير إسلامي ، و يستوردوا أصول مجتمعهم و قواعده من أي فكرة على وجه الأرض غير إسلامية ، و يستوردوا تقاليدهم من أي مجتمع على وجه الأرض غير مسلم ، ثم يظلوا مع ذلك مسلمين ؟!
كيف أمكن أن يتصور المسلم أنه يستطيع أن يخالف تعاليم ربه في كل شيء ، و يخون أماناته كلها ، فيغش و يكذب و يخون و يخدع ، و يتجاوز المتاع المباح إلى المتعة المحرمة ، و يقبل الذلة و المهانة حرصًا على هذا المتاع ، و يخلي نفسه من تبعة إقامة المجتمع المسلم سواء بسلوكه الذاتي أو بالدعوة إلى ذلك المجتمع ، و يشارك بذلك كله في إقامة مجتمع غير مسلم ، قائم على الظلم و الانحراف و المعصية .. ثم يتصور بعد ذلك أن بضع ركعات في النهار – مخلصة أو غير مخلصة – يمكن أن تسقط عنه تبعاته أمام الله و تسلكه في عداد المسلمين ؟!
كيف أمكن أن تتصور المسلمة أنها تستطيع أن تخالف تعاليم ربها و تخون أماناته ، فتغش و تكذب و تحقد و تغتاب .. و تخرج عارية تعرض فتنتها في الطرق لكل عين نهمة و جسد شهوان ، و تخلي نفسها من تبعة إقامة المجتمع المسلم ، سواء بالسلوك المستقيم في ذات نفسها ، أو بتربية أبنائها عليه ، أو بالدعوة إلى ذلك المجتمع .. و تشارك بذلك كله في إقامة مجتمع غير مسلم قائم على الظلم و الانحراف و المعصية .. ثم يدور في خلدها بعد ذلك أن (( النية الطيبة )) في داخل قلبها يمكن أن تسقط عنها تبعاتها أمام الله و تسلكها في عداد المسلمات ؟!
من أين أتت تلك الأفكار الغريبة التي تقول : ما للدين و نظام المجتمع ؟ ما للدين و الاقتصاد ؟ ما للدين وعلاقات الفرد بالمجتمع و بالدولة ؟ ما للدين والسلوك العملي في واقع الحياة ؟ ما للدين والتقاليد ؟ ما للدين والملبس – وخاصة ملابس المرأة ؟ ما للدين والفن ؟ ما للدين والصحافة و الإذاعة و السينما و التلفزيون ؟
و باختصار .. ما للدين والحياة ؟ ما للدين والواقع الذي يعيشه البشر على الأرض ؟!
لا شك أن هناك أسبابًا كثيرة لهذا (( الانحسار )) الذي يعانيه الإسلام في نفوس المسلمين .
فلم يكن كذلك المجتمع المسلم حين كان يمارس حقيقة الإسلام.
بل لم يكن كذلك المجتمع المسلم إلى عهد قريب – مع كل ما أصابه من فساد خلال القرون – إلى ما قبل الحملة الفرنسية على وجه التحديد .
لقد بدأت الفُرقة بين مثل الدين و السلوك الواقعي مبكرة في تاريخ الإسلام .. من عهد الأمويين مثلا .. و لكنها كانت فرقة لا تخل بقواعد المجتمع الإسلامي في مجموعه. كانت الحكومة في العاصمة هي التي تفسد – فسادًا جزئيا – في سياسة الحكم و المال . و لكن المجتمع في غير العاصمة ظل إلى حد كبير يمارس أصول الإسلام و قواعده ، و تحكم حياته المفاهيم الإسلامية في الكليات و الجزئيات . و الأهم من ذلك كله أن نظام المجتمع كان يقوم على الإسلام ابتداء ، و يستمد قوانينه كلها من شريعة الإسلام و لا يستمدها من أي مصدر سواه .
ثم اتسعت هذه الفرقة حين حكم الأتراك ...
و مع ذلك فقد ظل كثير من أمور المجتمع و مفاهيمه إسلامية خالصة ، و كذلك سلوكه العملي و أخلاقه و معاملاته و تصوراته و أفكاره .
حتى كان الغزو الصليبي الأخير في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر . و امتداده في القرن العشرين.
و عند ذلك حدث اختلاف كبير في المجتمع المسلم .. و اختلال كبير..
و هذا الكتيب الصغير محاولة – سريعة – لتتبع هذا الخط الذي أدى إلى انحسار المفهوم الإسلامي الضخم الشامل ، لكي يصبح مجرد جزيئات مبعثرة لا رابط لها و لا دلالة فيها .. و لكي يصبح مجرد عبادات مخلصة أو غير مخلصة – يحسب أصحابها أنها الإسلام كله ، و أنهم ملاقو ربهم و قد رضي عنهم و رضوا عنه .. حتى و هو يقول لهم في كتابه العزيز إن ذلك ليس هو الإسلام كما أراده الله !
فإذا عرفنا كيف نبع هذا الإنحراف و امتد .. فلعلنا نصحو إلى ما فيه من كيد .. و لعلنا نفئ إلى الله و إلى أنفسنا ..
و نعود مسلمين ..
و الله الموفق إلى ما يريد ،،
مقدمة كتاب "هل نحن مسلمون"
للأستاذ محمد قطب رحمه الله
الطبعة الثالثة – 1400 هـ ، دار الشروق