قال شيخ الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن برحمتك الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما .
أما بعد فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية . تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل ; فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحق المبين .
والعلم إما نقل مصدق عن معصوم وإما قول عليه دليل معلوم [ ص: 330 ] وما سوى هذا فإما مزيف مردود وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود .
وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الترديد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ومن تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله .
قال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وقال تعالى : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } وقال تعالى : { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } { الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ ص: 331 ] { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } .
وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد والله الهادي إلى سبيل الرشاد .
فصل يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه فقوله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } يتناول هذا وهذا وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن : كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ; ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين قيل : ثمان سنين ذكره مالك .
وذلك أن الله تعالى قال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } وقال : { أفلا يتدبرون القرآن } وقال : { أفلم يدبروا القول } وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن . وكذلك قال تعالى : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } وعقل الكلام متضمن لفهمه .
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه فالقرآن أولى بذلك وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها ولهذا قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره .
والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم [ ص: 333 ] السنة وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال .