[font=Tahoma]ترددت مراراً قبل أن أكتب إليك، ليس تشاغلاً عنك بل تفكراً في مدى تقبلك لما سأهمس به في أذنيك. أغلب الظن أنك في غنى عن تذكيرك بحرصي عليك، وتوقي لرؤية البسمة لتملأ من جديد ما بين وجنتيك.
أراك اليوم على غير عادتك، فلم تعد كما عرفتك مفعماً بالنشاط والحيوية، وعهدي بك فتى صغيراً لا يكف عن اللهو والتوثب في أرجاء المكان، حتى تكاد تلامس السقف بأطراف أصابعك، فبتّ اليوم هادئا متزنا تعلو وجهك مسحة من حزن، وتغلب على صوتك نبرة غلاظة تخفيها في خجل بالإقلال من الكلام. أراك مضطربا مكتئبا كلما تفرست في وجهك ملامح الجِدّ، وكأنك قد حملت على عاتقك ما تنوء به أكتاف الرجال. تسعى والدتك للتواصل معك فتنزوي عنها بجفاء وغلظة، غير مكترث لأصول الأدب وأخلاقيات الحوار.
ألاحقك بعيني على غفلة منك، فأراك تمضي الساعات الطوال متأملا صورتك في المرآة، منعما النظر في وجهك الشاحب الذي بدأ يكتسي بالشعر، وعابثا بعيوب بشرتك على أمل أن تغدو في صورة أفضل. تصفف شعرك الذي أطلقته على غير هدى بالرغم من اعتراض والديك، وتكشف عن زنديك الغضين محاولا اعتصار عضلاتك الضامرة.
تمضي جُل وقتك منزويا في غرفتك، هائما في أحلامك مطرقا في أفكارك، وكأني بك تنسج في خيالك الخصب من الأحلام ما تطال به عنان السماء، حتى خُيل إليك أن شيئا لن يقف عائقا دون منالها في يوم من الأيام.
أراك واثقا من نفسك إلى أبعد مدى، تمضي في الجدل إلى أن تصرع خصمك، والكل خصوم عندك. لم يعد وارداً في حساباتك أن تكون مخطئا على الإطلاق، ولن تتورع عن صب جام غضبك على كل من خالف رأيك الذي بات من المسَلّمات لديك. كرامتك باتت على المحك، والويل كل الويل لمن يجرؤ على الغمز أو اللمز، فأنت اليوم أسطورة الرجولة التي لا تُقهر، متأهب دوما للدفاع عن رأيك ضد أي خطر محتمل، فإذا ما أعجزتك الحيلة وافتقدت الكلمة، أو خانتك الألفاظ عن الإتيان بالبراهين المفحمة، عمدت إلى عنق خصمك فخنقته، أو إلى رأسه فهرسته، وربما عاجلته برفس بطنه ولكم وجهه وصدره إلى أن تطفئ جام غضبك بالتشفي منه على أية صورة.
أخي العزيز،
لستُ الآن بصدد وعظك والإملاء عليك، فما أنا بأهل للنصيحة، ولا أنت بمحل التتلمذ والتلقين. غير أني ما اندفعت - بكل حبي ومودتي- للكتابة إليك إلا بعد أن وجدت في قلبي يوماً ما يختلج الآن في صدرك، وخبرت بالأمس القريب ما تمر به اليوم من ضيق وضنك وحرج، فعمدت إلى قلمي عسى أن تجد في كلماتي هذه شيئا مما تسلو به قلبك وتؤنس به وحشتك، وتمسح به عن وجهك مسحة الحزن الذي لا مبرر له.
كنتُ بالأمس مثلك، هائما على وجهي، أمشي على غير هدى. لست أدري ما الذي ضاق به صدري حتى ضاقت علي الأرض بما رحبت، ولكني أذكر تماما أني خِلت الدنيا كلها تقف يومذاك في وجهي وتتربص بي.
كان الحزن هويتي، والقلق والحيرة والضياع صفات لا تفارقني. صراع دائم مع كل من حولي، وشك قاتل في كل ما خبرته وتلقيته منذ ولادتي. أشياء كثيرة تافهة تدفعني للجنون، وحالات عجيبة من النكوص تدفعني للبكاء كالأطفال كلما أعجزتني الحيلة.
أعود اليوم إلى بعض مذكراتي التي سطرتها في حالات من ذلك القلق القاتل، وحسبك أن تتصور ما فيها من جنون، ولعلك إن قرأت بعض ما فيها ستحسب أنها مشروع مجرم خطير يتربص بكل ما حوله لينتقم منه.
لم تعد لدي آنذاك حقائق أو عقائد أقنع بها، وكاد اللاشيء هو الشيء الوحيد الذي أؤمن به. نعم، كنت أصلي فروضي وأدعو ربي، ولكنها كانت مجرد خيط رفيع قابل للاهتزاز، وهو كل ما تبقى من مسيرة تعليمي وتهذيبي طوال سنين. لست أدري عمّ كنت أبحث، ولا أذكر أي حلم كنت أرسم، فكل أملي كان محصورا آنذاك في الخلاص مما أنا فيه.
لعلك لم تجد من الظروف ما يوقعك في مثل هذا الضيق، ولكني أؤكد لك أني كنت أبالغ دائما في استيائي وامتعاضي، وحسبك أن تعلم أن ظروفي اليوم لم تتغير كثيرا، وأن كل ما حدث هو أني تعلمت كيف أتصرف بظروفي دون أن تتصرف بي.
لست أدعوك، أخي العزيز، للتفلسف ولا للتصوف، فأنت اليوم رجل عاقل قادر على صناعة تجربته وكتابة قصته، ولا أظن أنك ستعجز عن كتابة صفحاتها الأولى في هذه الساعة، فما الذي يدعوك للمضي على ما أنت عليه؟
دعني أُسر لك بدرسي الأول، فقد كان أول ما تعلمته هو أني ما خرجت من متاهتي تلك طوال سنين إلا لأني لم أكن راغبا في ذلك. لعلك ستدهش من هذا، ولكني أصدقك القول بأن غروري كان يمنعني عن التفكير بالتغيير أو حتى الاعتراف بأني في حاجة إليه. بمعنى آخر، كنت أتلذذ بآلامي وأستعذبها، وأؤمن بأني ما زلت مسيطرا على الوضع بالرغم من كل ما أنا في من ضيق وقلق.
عنادي إذن كلفني المزيد من الضياع، وأخّر مشروعي لبضع سنوات، قضيتها - راضيا- في الهمّ القاتل الذي أفضل فيه الموت على الحياة!
أخي الحبيب،
لست أميل إلى الشعارات الرنانة التي يطلقها بعض المحترفين، كإيقاظ العملاق الذي في داخلك، وإطلاق العنان لقدراتك، والتخطيط المنهجي لحياتك. فعلى الرغم من الفائدة الكبيرة التي ستجنيها من هذه البرامج، إلا أني أدفعك أولا للتأمل في ذاتك، وأن تحرر نفسك قبل كل شيء من قيودك.
لا يمكن أن تنهض ما لم تتخلص من مخاوفك ومنابع القلق التي ترهق كاهلك، إياك أن تهرب منها، أو تسوّف النظر في أمرها، فأنت الآن أقدر على ذلك من أي وقت آخر.
حياتك تخصك أنت وحدك، فلا تتوقع من أحد أن يهتم لأمرك أكثر منك. مخاوفك التي تنوء بحملها لا تعني أحداً غيرك، فلا تلق باللائمة على من حولك.
أنت من يفكر ويتأمل ويصنع ويخطط، وأنت وحدك من يتحمل النتائج ويحصد الثمار. لا تظن نفسك فقيرا عاجزا، فأنت تملك نفسك، حياتك وصحتك وفراغك، أمنك وغناك وشبابك، والكثير مما يفتقده الملايين في شتى أنحاء الأرض ويحسدونك عليه.
ما أظن أن فاشلا سيقرأ كلماتي هذه حتى آخرها، ولا أشك في أن رسالتي هذه ستُؤخذ على محمل الجد، فأنت الآن - أخي العزيز- كامل الأهلية، ولك الحق في أن تقرأها كيفما تشاء، وأن تتخذ قرارك بنفسك.
مع محبتي،[/font]